لم تثمر دعوات الإخوان المسلمون ورسائلهم إلى رؤساء الحكومة المصريّة المتعاقبين والتي دعت إلى مخاطبة «الحليفة بريطانيا» ومطالبتها بضمان استقلال وكرامة فلسطين؛ البلد العربيّ المسلم، كما ولم تسفر العلاقة الحميمة التي جمعت حسن البنا (1906-1949)؛ مؤسس الجماعة، بمفتي عموم فلسطين أمين الحسيني (1895- 1974) عن أيّة تحركات عملانيّة على نطاق واسع؛ إذ كان واضحًا أنّ النشاط الدعويّ، وحملات الدعم النفسي والمالي وحلقات التوعية التي نفذها الإخوان في أرجاء مصر الملكيّة إبّان إضراب الستة أشهر، وقبيل النكبة، إنما جاءت على هامش الهمّ الأساسي للجماعة التي كانت آنذاك في طور تحوّلها من جماعة دعويّة، إلى كيان مخفيّ يسعى، بشكل أو بآخر، للامساك بزمام الأمور.
أمّا في فلسطين، فكانت مجلّة الاخوان تصل بشكل دوريّ إلى بعض الخلايا التي تشكلت لإزعاج السلطات البريطانيّة، وكان العمل يجري حثيثًا لإيجاد موطئ قدم للجماعة في أرض فلسطين حيث كان تأسيس جمعيّة المكارم في القدس في العام 1943 بمثابة تدشين لبداية جديّة للعمل الإسلامي في فلسطين، كما أعقب ذلك ترؤس الحاج ظافر الشوّا للفرع الرسمي للجماعة في غزّة بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية.
بعيد النكبة وإعلان دولة «إسرائيل»، وصل الدور الإخواني المباشر في فلسطين إلى ذروته؛ قبل أن يبدأ في الانحسار. شكّل الاخوان ثلاث كتائب مقاتلة سرعان ما انضوت تحت مظلّة العمل العربيّ المشترك ولاقت نفس الهزيمة التي لاقتها الجيوش العربيّة رغم بلائها الحسن في عدّة مواضع ونقاط اشتباك. بتراتبيّة لا تخيب، انعكست آثار الهزيمة وما نتج عنها من تقسيمات على «الإسلاميين الفلسطينيين» حيث تمّ إلحاق إخوان الضفّة بإخوان الأردن الذين عانوا سباتًا شتويًا طويلاً، في حين ظلّت غزة لقربها الجغرافيّ من مصر وطبيعتها الديموغرافيّة منصة فعّالة ونقطة ارتكاز للإسلاميين عمومًا، والإخوان المسلمون خصوصًا.
في الفترة ما بين النكبة (الاسم المستخدم لفعل التطهير العرقي الذي مارسته العصابات الصهيونيّة عام 1948) والعام 1967 الذي شهد نكسة ضاعت معها غزة والضفة الغربية وسيناء ومرتفعات الجولان لم يكن الإخوان، أقلّه قيادتهم، متحمسين لشنّ عمليات عسكريّة ضد إسرائيل؛ إمّا لعدم أولويّة فلسطين على جدول الأعمال، أو الانشغال بالخلافات الداخليّة التي عصفت بالجماعة في أوائل الخمسينيّات. فلسطينيًا، لم يكن ممكنًا الركون إلى المساجد، والقنوت في الصلاة، واقتصار العمل على دعوات الالتزام الديني في الوقت الذي قضمت فيه «إسرائيل» ثلثي الأرض الفلسطينيّة وشردت مئات الآلاف.
ومن ذلك الحسم الفكري الذي ساد الأوساط الفلسطينيّة في الداخل والخارج جاءت انطلاقة حركة «فتح» التي صار من البداهة التاريخيّة أن لفيفًا من مؤسسيها إنما خرجوا من رحم الاخوان، رغم القطع التام الذي حدث لاحقًا مع أدبيّات الجماعة وتعريفها لماهيّة القضيّة الفلسطينية ومنظارها الديني في رؤية الصورة وتوصيف الأمور.
لم يمض وقت طويل حتى ردّ الإخوان الضربة للكوادر والقيادات الشبابيّة التي رفضت الرضوخ وسارعت إلى التنسيق للبدء في حراك شعبي يحمل في جنباته احتمالات التحوّل إلى ثورة مسلّحة. صدرت الأوامر من القاهرة بإعادة تنظيم الإخوان في غزة، كما وخاطبت القيادة عددًا من طلاب فلسطين في الخارج، لاسيّما في الجامعات المصريّة في محاولة لتنظيم الأوراق وإعادة الاعتبار إلى منظور الاخوان الاسلامي الذي عصفت به التهديدات مع تشكّل معالم مشروع وطنيّ جامع يستند إلى منطلقات تتسم بشيء من العلمانية التي لا تشبع نهم الإخوان المسلمين إلى وضع الاسلام في لبّ الصراع ومكامن جوهره.
في العام 1961، صاغ أفراد من تنظيم الإخوان في قطاع غزّة بيانًا يردّ على بعض الدعوات لبدء الحرب الشعبيّة لتحرير الأرض الفلسطينيّة. يرِد في ذلك البيان ما يمكن اعتباره حجر زاوية في كل الفكر الاسلامي الذي يقترب من حدود فلسطين، جغرافيا وقضيّة. يقول البيان في خاتمته: «هدف التحرير لا يمكن أن يتم إلا من خلال الأمّة الاسلاميّة كلها، وليس الشعب الفلسطيني وحده. ما نطرحه هو الاستعداد الإسلامي وشحذ الهمم لأنّ انتصار حركة الاخوان ورسالتهم هو الذي سيحرر فلسطين».
العقليّة التي صاغت بيان حركة المقاومة الإسلاميّة «حماس» الأوّل عام 1987 ما هي إلا امتداد للعقليّة التي صاغت البيان الذي اعتبر كلّ المحاولات التحرريّة بلاهة إن هي أغفلت الدين وشطبت البعد اللاهوتي للصراع من على الأجندة. حين كتب عبد العزيز الرنتيسي (1947 – 2004) بيان «حماس» الأوّل استخدام بلا مواربة مفردات دينيّة بامتياز. ناصية البيان تقول: «يا جماهيرنا المرابطة، أنتم اليوم على موعد مع قدر الله سبحانه النافذ في اليهود وأعوانهم، بل أنتم جزء من هذا القدر الذي سيقتلع جذور كيانهم إن آجلاً أم عاجلاً بإذن الله سبحانه وتعالى». الانطلاقة إذًا كانت موعدًا مضروبًا مع «القدر» النافذ في «اليهود»؛ القدر الذي سيجعل المسلمين يدخلوا المسجد «كما دخلوه أول مرة ويتبروا ما علو تتبيرا».*
دولة «إسرائيل»، وفق فهم حماس الذي هو بالتعريف نهلٌ من معين فهم الاخوان بتنظيمها العالمي، ما هي إلا دولة يهوديّة لليهود، نشوؤها وزوالها محكوم بحسابات فَوقيّة، وأبوابها لن تفتح إلا بأياد مسلمة متوضئة تلبّي نداء الجهاد من دول مسلمة مبنيّة وموجودة للمسلمين. في واحدة من جمله الشهيرة، يقول حسن البنّا عن دولة بن غوريون: «ستقوم إسرائيل وستظل قائمة إلى أن يبطلها الإسلام كما أبطل ما قبلها». ثمّ توصيف للداء، وتوصيف للدواء، ولا مجال للشكّ وسط كلّ هذا اليقين.
الميثاق الرسميّ لحركة «حماس» بمواده التي تزيد على الثلاثين يقدّم صورة مصغرة عن الفضاء الذي تتحرك فيه الحركة، ومعها الغالبية العظمى من حركات الاسلام السياسي السنّي على أرض فلسطين التي هي، حسب المادة الحادية عشرة من الميثاق «أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة». هكذا حكمها في الشريعة. ليست فلسطين إذًا وطنًا لشعب تهجّر ومساحة يجب العمل على قصّ أظافر الأديان فيها، بل أرض وقف إسلاميّ للمسلمين يمكن للمسيحيين (الفلسطينيين) أن يعيشوا فيها انما تحت سقف القانون الاسلامي ووفق محدداته.
بين الحين والآخر تطفو على السطح دعواتٌ لتعديل بعض المواثيق ولزيادة الجرعة الوطنيّة في الخطاب الاسلامي الذي تستعمله الحركات الاسلاميّة عمومًا، وحماس خصوصًا. تُقابل تلك الدعوات بالرفض المبدئي بحجّة أن المرونة في هذا الشأن لا تعني تنازلاً سياسيًا وسعيًا نحو «التسوية» فحسب، بل وتمثّل عبثًا بأصول دينيّة ودرًا للرماد في عيون الناشئة المسلمة التي لابدّ لها أن تعلم أن فلسطين أرض إسلاميّة «اغتصبها» اليهود في ليلة ظلماء.
ذلك «الاغتصاب» لن يزول وتنتهي مفاعيله حتى «يجئ أمر الله». المقاومة الاسلامية تسعى نحو احراز انجازات موضعيّة، هذا بديهي، لكنّ النصر الذي هو التحرير، ودخول المسجد الأقصى ورفع الراية، فذلك أمر تحدده الأجندة السماويّة التي تتضمّن، بالضرورة، بندًا عن أستاذيّة الإخوان المسلمين للعالم. أمّا المهمة الموكلة على العاتق الفلسطيني اليوم فهي، حسب أدبيّات حماس، إذكاء جذوة الجهاد وإبقاء الاشتباك قائمًا مع «إسرائيل» حتى تدور الدوائر وترجح كفة الاسلام؛ دين الله على الأرض.
اليوم، وقد صار للنكبة ومفاعيلها ستّة عقود ونصف في مرابع العرب، تستمرّ «إزاحة» القضيّة الفلسطينيّة إلى ساحة الأديان. «إسرائيل» تعتبر أنّ الاعتراف بيهوديّتها هو المطلوب للبدء في أية محادثات، والإسلام السياسي يبسط سيطرته على مساحات واسعة من الحقل السياسي والاجتماعي الفلسطيني، والتغييب هو المصير المحتمل لكل الإرث النضالي الوطنيّ والشعبيّ الذي قدمت فيه أجيال كاملة بمساهمات بنّاءة في نصرة هذه القضيّة ودعمها وتعريف العالم بها والدفع باتجاه إعادة وضع الوطن الفلسطيني على المسار الصحيح نحو الديمقراطية والدولة المدنيّة.
في زيارته لقطاع غزّة، اعتبر رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ يوسف القرضاوي، اعتبر أهل غزة «وكلاء الله على الأرض» وطالبهم بالمقاومة والثبات على المواقف «حتى يأتي أمر الله، وينتصر الحق على الباطل، والعدل على الظلم». رئيس وزراء حكومة غزّة، اسماعيل هنيّة، أشاد بدوره بزيارة الشيخ العالم وقال إنّ هذا الجمع اليوم في غزة، وقريبًا في «المسجد الأقصى». المسجد الأقصى الذي هو درّة تاج وعي الاسلام السياسي حين يتعلق الأمر بفلسطين.
المقدسات المسيحيّة، ومعها المسيحيون، ناهيك عن الفلسطينيين اللادينيين (وهم موجودون!) والعلمانيون يضيق حيّزهم ويصير أصعب عليهم مع مرور الوقت التصدّر ومحاولة إيقاف البوصلة عن هذيانها الميثولوجي. تلك البوصلة التي كلّما بزغ نجم فصيل سياسي قرر أنّ من حقه، وحقه وحده، ووفق رؤيته الحصريّة، تحديد وجهتها.
ليس المطلوب هو العودة إلى مربّع أول، ولا شطب الإسلاميين من المشهد. المطلوب هو العمل على إقناع الجميع، كلّ الجميع، بأن فلسطين وقضيّتها لا تملك تعريفًا مقدسًا يُحذر المساس به. فلسطين هي الفلسطينيون الذين هم من ديانات مختلفة، وطوائف متعددة، ومشارب سياسية متنوعة. العمل على إعادة الاعتبار لهذا التنوع الديموغرافي والفكري يبدو اليوم ملحًا أكثر من أيّ وقت مضى. ردّ اعتبار لابدّ أن يشمل النظرية والتطبيق، المدرسة والجامع، المدينة والمخيّم.
في زمن انتشرت فيه عبارة «الثورة مستمرّة» في الأزقة والشوارع العربيّة، لابد أن نؤكد كفلسطينيين، لأنفسنا وللآخرين، أنّ «النكبة مستمرّة» أيضًا؛ النكبة التي ليست اغتصابًا للأرض ولا غزوة خسرناها ولا حملة صليبيّة بل النكبة التي هي تطهير عرقي مارسته عصابات صهيونيّة بحقّ الانسان الفلسطيني والتي يمكن الحدّ منها، ولربما الحصول على شيء من العدالة لمن تضرروا منها، بالكثير من التخطيط والعمل الذي تقع علينا جميعًا مسؤوليته القيام به، دون الحاجة أو التطرّق إلى وعود إلهيّة أو تعاويذ سحريّة.
* الإسراء، 7.